قضايا و حوادث متى يتخلى التونسيون عن النعرات الجهوية؟
من «وراء البلايك».. من أرياف سليانة السحيقة.. ومع فجر جوان الحارق، يشدّ غسان الرحال نازحا نحو إحدى المدن الجنوبية بحثا عن شغل يوفّر به مُدّخَرًا من المال، به يتخلص من ملابسه الرثّة التي داوم على ارتدائها طيلة السنة الجامعية، ويساعد والده على نفقات الكراء بالعاصمة طيلة السنة الجامعية القادمة.
لم يجد الشاب صعوبة كبرى في الحصول على شغل وقتي متواضع لكنه ذاق الامرين من اجل استئجار مسكن يأويه. بلكنة ابناء الشمال الغربي وقائها ذات النقاط الثلاثة كان يلاقي الصّد تلو الصّد من قبل المُؤَجِّرِينَ. «انت عَرْبِي، ما عندناش بيوت للكراء». سأل غسان عن معنى كلمة عربي التي صارت شتيمة تلاحقه. فاجابه احد السكان انها تطلق على كل دخيل على المدينة، وخاصة اولائك القادمون من احزمة الفقر في سيدي بوزيد و القيروان والقصرين وجندوبة والكاف وباجة وسليانة.. على كل، تمكن ابن سليانة في اخر الامر من ضمان مسكن متواضع هو عبارة عن كوخ، جدرانه مدهونة «بالجير العربي» وسقفه من اعمدة الخشب.
ورغم مرور اكثر من 6 سنوات على هذه الحادثة ونجاح غسان في افتكاك منصب له بوزارة الفلاحة الا ان ما قاساه من تحت غطاء نعرة جهوية مقيتة لا يزال يجلد ذاكرته بين الفينة والاخرى.
جهويات حاشا المحل
بعيدا عن النفخ في رماد هذه النعرات المميتة، لا يمكن لأي كان ان ينكر ما يعتمل بداخلنا كتونسيين من تعصّب للإنتماء الجهوي و القبلي و العروشي. إنها العودة للمرجعيات البدائية والآولية.
فتوصيفات من قبيل نزوح وجبورة ومن وراء البلايك وجندوبي حاشا المحل و zero huit وKJB وصفاقسي مشحاح وجربي كمّوشة وولد فاميليا وولد حومة وولد ربط، كلها مداخل للغوص في عصبيات قاتلة. لا يأخذنّك الاندهاش عزيزي القارئ، فأنت يوميا تواجه وتستعمل وتستمتع بهذه المصطلحات ولو دون وعي بمغزاها او على سبيل المزاح.
في إحدى المدن الساحلية وفي مدخل احد الاحياء الراقية، كتب احدهم «الجبورة على برا».. وفي مدينة جنوبية أخرى دوّن اخر على جدار احد المعاهد التربوية «صحّة النوم يا.. فات الميعاد.» في اشارة الى مدينة مجاورة نتحفظ عن ذكر اسمها تفاديا لاي لغط قد يتسبب فيه هذا الخطاب العدائي.
يقول الباحث في الشؤون الاجتماعية طارق بلحاج محمد : «لقد ثبت بعد الثورة ان سياسة الحداثة الاجتماعية ليست فعلا ناجزا كما كان يروج له. والدليل على ذلك عودة ما يسمى في علم الاجتماع بالانتماءات الاولية العائلية منها والقبلية والعروشية وحتى المناطقية والجهوية.»
غرباء من نفس الوطن
ثم فلنطلع على بعض الاحياء بمختلف الولايات التونسية. العصبيات القبلية و الجهوية على اشدّها. هناك احياء سكنية منغلقة على نفسها. حومة الفراشيش.. حومة المثاليث..حومة البراقة.. حومة اولاد بلهادي و الحرارزة والربايع والتوازين والامازيغ. بل وتجمعات تجارية برمتها محسوبة على هذه الجهة على غرار سوق المنصف الباي او اسواق باب الجزيرة المعروفة بسيطرة ابناء معتمدية جلمة من سيدي بوزيد، وعمارات فاخرة و مطاعم ومقاهي مترفة في انحاء اخرى لا يتورع ساكنها عن تنبيه «الغرباء» من مغبة دخولها. بين هذه التجمعات وتلك تتعمق الهوّة وتتباعد المسافات ويتعالى منسوب العصبيات. رغم ذلك يحدث ان «يسافر» هذا الطرف الى الاخر للتسوق او «يتجرأ» هذا الشق على دخول المجال الحيوي للاخر استكشافا أو ترويحا عن النفس.
يكتب الاستاذ الجامعي نور الدين العلوي على حسابه بالفايسبوك مسترجعا ذكريات الصبى: «اقسم ان معلمنا في سنوات السبعينات كان يمسكنا بورقة من «البلوزة» التي تفوح منها رائحة الدخان.. كان يعافنا ويحتقرنا، لاننا كنا كالثعالب نتدفأ على الحطب الاخضر لنعيش وكان يحتقرنا ويهيننا ولا يقترب منا الا بالعصا على اطراف الاصابع في الشتاء ولا ترده دموعنا ولا فقرنا ولا تدليل أهلنا له فقد خصصوا له بيتا مجانيا و كانت عجائزنا يغسلن ملابسه ويوفرن له لقمة ساخنة وهو العازب في قرية لا ماء ولا كهرباء فيها. بينما كان معلم اخر يمسح على رؤوسنا الشعثاء. و كم مرة حوّل بعضنا إلى زوجته لتغسل راسا فيه قمل أو ملبسا قديما ترتقه.. رغم ذلك كانوا من اهلنا ومن طينتنا..»
تحت الرماد، لهيب العروشية والقبلية
التعصب للجهة او العرش، كان تحت الرماد مثل اللهيب طيلة عقود مضت. وسرعان ما ارتفعت ألسنته بعد الثورة في اكثر من مدينة. في جوان 2011 ، راح ضحيته 13 مواطنا في معتمدية المتلوي بسبب خلاف بين اولاد بويحي والجريدية. وفي سيدي الهاني من ولاية سوسة وفي جبنيانة بصفاقس وببلاريجيا في باجة وفي جلمة بسيدي بوزيد.. قد تختلف الاسباب ولكن الوقود واحد. اللعب على الوتر العصبي وتغذيته وتوجيهه.
كما لم يسلم هذا المعطى البدائي من تدخل السياسة والسياسيين فيه.مثلما كانت السلطة ايام بورقيبة وبن علي تتقرب من القبائل والعروش الكبرى بتنصيب ابنائها عمدا وولاة. ثم تجنح الى اعتماد التناوب في ترضية العروش اذا طفى تململ على سطح الاحداث. لم يشذ سياسيونا بعد الثورة على هذا المنوال.
مطامح سياسية خلف التعصب للجهة
جل الحملات الانتخابية الحالية نهلت من المنطق الجهوي سواء بتنصيب رؤساء قائمات بعينهم لضمان رصيد انتخابي وافر او بافتتاح الحملات الانتخابية في مسقط رأس البعض بالرغم من ابتعاده عن مدينته لعقود طويلة.
كما لا يمكن التغافل عن لعب البعض على هذه الانتماءات القاتلة خلال الاعلان عن بعث كليات طب في عدد من الولايات. بل استغرب البعض التقاء نشطاء محسوبين على حركة النهضة و نقابيين من الاتحاد العام التونسي للشغل في ذات المظاهرة المحتجة على حرمان هذه المدينة او تلك من كلية طب.
في ذات السياق يحلل الاخصائي الاجتماعي طارق بلحاج محمد : عوض ان تخاطب نخبنا فكر التونسي، فهي تتجه الى وجدانه و غرائزه. وعوض ان ترفع من مستوى وعيه، تستثمر تخلفه. ولنا في حمة الهمامي الذي استهل حملته الانتخابية في مدينته سليانة مثال وفي الرئيس المنصف المرزوقي الذي اصبح ناطقا باسم الجنوب التونسي نموذجا.
في العالم الغربي يتحدون ونحن نتشظى
التعصب للجهة او الطائفة او القبيلة ليس حكرا على تونس بل كان شرارة للحروب والصراعات. في لبنان راح الآلاف ضحية التناحر بين المسيحيين والدروز والسنة والشيعة والموارنة في سبعينات القرن الماضي. وفي السودان، نجح الامريكيون والاسرائليون في تقسيم البلد و تفتيته عبر اشعال نار التطاحن الديني والعرقي. وفي العراق لا يزال شبح تقسيم البلد الى دويلات صغيرة يخيم على بلاد الرافدين. ولكن فلننظر الى المنوال الاسكتلندي الذي رفض الانسلاخ على بريطانيا مؤخرا فصوت اكثر من 55% من الاسكتلنديين لصالح الوحدة مع بريطانيا تفاديا للاضمحلال و التجزّء.
ما يتفق فيه التونسيون وغير التونسيين هو صغر هذا البلد وتميزه بوحدة الدين والعرق، ولكن الم يحن الوقت لاجهزة الدولة وحكامها للعودة الى ارض الواقع لتجسيم توازن تنموي واستراتيجي واجتماعي يدرج كل مكونات المجتمع في نمط تحديثي اصيل يكون بالفعل مضادا حيويا لاي تعصب او ميز جهوي او مناطقي.
الباحث الاجتماعي المنصف وناس يكشف اسباب النعرات الجهوية
يقول الاستاذ المنصف وناس الذي اشتغل على التركيبة النفسية التونسية في كتاب بعنوان «شخصية التونسي»: يمكن ارجاع تنامي الحس الجهوي والبدائي الى خمس اسباب.
1 ـ تعويض الرئيس الاسبق الحبيب بورقيبة للوازع القبلي بالنعرات الجهوية. حيث عمل على تسييس الانتماء وربط قيمة المواطن ببعض الجهات والمدن. والكل يعلم ان قيمته كانت ترتفع في حقبة ما اذا اعلن انتماؤه الى سوسة او المنستير مثلا.
2 ـ فشل الدولة التونسية في ارساء نمط تحديثي ناجح منبني على المواطنة.
3ـ تراجع هيبة وسطوة الدولة وقوتها وانتشارها الجغرافي بعد الثورة. هذا الفراغ عوضه الانتماء الى العرش والعائلة والجهة. انها المرجعيات البدائية الاولية لان الافراد بحاجة الى الامان والمساعدة المادية والمعنوية.
4 ـ عدم امتلاك الدولة للشرعية الشعبية عبر انبثاقها من الانتخابات ما يوقعها في صعوبة مع مرور الزمن على غرار مع حصل مع بورقيبة عندما اعتمد على الشرعية التاريخية التي تآكلت في اخر الامر، مثلما حدث في اكتوبر 1978 بالجزائر. وتآكلت هذه الشرعية ايضا مع بن علي فاندلعت الثورة.
5 ـ الصعوبات الاقتصادية التي تحاصر البلد بدورها تدفع الشباب الى الاحتماء بالنعرات الجهوية والقبلية المنغلقة.
محمد الجلالي